مياة النيل
المياه العربية في خطر من مناطق العالم العربي باعتبارها واحدة من أخطر وأهم أسباب التوتر الدائر حاليا بين دول المنبع من جهة، ودول المصب من جهة أخرى ، ولا يستبعد هؤلاء وجود طرف ثالث يقف دائما وراء خلق تلك الحالة من التوتر الذي ما إن يختفي عن السطح حتى يعود ليطل برأسه من جديد، بهدف تحقيق عدد من الأهداف في مقدمتها الحصول على نصيب وافر من تلك الغنيمة ، حتى لو تطلب الأمر إشعال حروب وإراقة أنهار من الدماء ، وتلعب “إسرائيل” في منطقتنا العربية دوراً خطيراً في هذا الاتجاه من حيث السعي المستمر للاستحواذ على المياه العربية وسرقتها ، أو محاولة العبث بمصادر مياه أخرى كما في حالة نهر النيل، حيث تعمل على تحريض دول إفريقية لتجاوز اتفاقات تحدد نصيب دول المنبع والمجرى والمصب .
وتنظر كثير من الدول الأطراف في هذا الملف ومن بينها مصر، إلى المياه باعتبارها “قضية أمن قومي” و”خطاً أحمر” لا يتعين تجاوزه أو العبث به، وهو الأمر الذي يشير بوضوح، حسبما يرى العديد من الخبراء الاستراتيجيين الى أن أزمة المياه التي تضرب العديد من المناطق في العالم الآن قد تكون هي السبب الرئيسي وراء اندلاع العديد من الحروب خلال القرن الحالي، ما لم تصل الدول الأطراف على مائدة المفاوضات إلى “قسمة عادلة” ونصيب وافر من اكسير الحياة .
وتتجلى تلك الأزمة خلال العقد الأخير في العديد من بلدان العالم العربي، فعلى الرغم من جريان العديد من الأنهار في المنطقة العربية، إلا أنها تصنف على أنها واحدة من أفقر المناطق في مصادر المياه العذبة، إذ لا يتعدى نصيبها أكثر من 1% فقط من كل الجريان السطحي للمياه، فضلا عن 2% من إجمالي الأمطار في العالم .في هذا الملف تسلط “الخليج” الضوء على أزمة المياه في المنطقة العربية والمخاطر التي تهدد الدول العربية جراء مشاريع مشبوهة ومحاولات مستمرة لسرقة المياه العربية .
صراع في وادي النيل بين دول المنبع والمصب
تشير الإحصاءات والتقارير الصادرة عن الجهات ذات الشأن في هذا الملف إلى تضاؤل حصة الفرد من المياه في الوطن العربي مقارنةً بالمعدل العالمي، حيث لا يزيد متوسط حصة الفرد في معظم البلاد العربية على ما يقارب خمسمائة متر مكعب في العام، فيما تصل هذه الحصة عالميا ألف متر مكعب سنويا .
وتقدر التقارير الدولية عدد الدول العربية الواقعة تحت خط الفقر المائي أقل من ألف متر مكعب للفرد سنويا بنحو 19 دولة، منها 14 دولة تعاني شحا حقيقيا في المياه، إذ لا تكفي حصصها المقررة من مصادرها الطبيعية لسد الاحتياجات الأساسية لمواطنيها .
وتعد مصر “هبة النيل” خير تجسيد لتلك الأزمة المتوقعة خلال سنوات قليلة، ويقول تقرير لمجلس الوزراء المصري إن البلاد ستكون في حاجة إلى نحو 2 .86 مليار متر مكعب من المياه بحلول العام ،2017 في حين أن الموارد المتاحة لها لن تتجاوز 4 .71 مليار متر مكعب، وهو ما يعني حسب تقديرات مجلس الوزراء تراجع نصيب الفرد إلى 582 مترا مكعبا سنويا، “ما لم تتخذ إجراءات مضادة” .
وتعتمد مصر اعتمادا رئيسيا على مياه النيل في مواردها المائية، حيث تصل حصتها السنوية من مياه النهر وحده بنحو 5 .55 مليار متر مكعب سنويا، وقد كانت هذه النسبة كافية إلى حد كبير حتى بدايات القرن الماضي قبل أن يبدأ متوسط نصيب الفرد من المياه في التناقص سنويا بسبب الزيادة السكانية ، حتى بلغ في العام 2007 أقل من 800 متر مكعب، بعد أن كان يصل في بداية القرن العشرين في العام 1907 حيث كان عدد سكان مصر لا يزيد وقتئذ على 11 مليون نسمة حوالي 4400 متر مكعب .
وتستند مصر في حصتها المقررة من مياه النيل إلى بروتوكول وقع في العام 1891 بين بريطانيا وإيطاليا كدولتين مستعمرتين، حيث تعهدت الحكومة الإيطالية في البند الثالث من هذا البروتوكول “بعدم إقامة أي إشغالات على نهر عطبرة لأغراض الري، يكون من شأنها تقليل تدفق مياهه إلى نهر النيل على نحو ملموس” .
أول أزمة
وتفجرت أول مشكلة تتعلق بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل في العام 1925 عندما طلبت بريطانيا من حكومة سعد زغلول الموافقة على إطلاق يد حكومة السودان المصري البريطاني حينذاك في زيادة مساحة أراضي مشروع “الجزيرة”، لغرض التوسع في زراعة محصول القطن ، الذي تحتاجه المصانع في بريطانيا من 300 ألف فدان إلى مساحات غير محددة، تبعا لما تقتضيه حاجة تلك المصانع، لكن حكومة سعد زغلول رفضت الطلب البريطاني رفضا قاطعا، باعتباره سوف يؤدي إلى إضرار كبير بمناوبات بالري في مصر ، وقد أدركت بريطانيا حينذاك حجم المشكلة، وأبلغت حكومة سعد زغلول رسميا “بأن لمصر حقوقا تاريخية وطبيعية في مياه النهر، وأنها بريطانيا تعترف بها، لكنها ترى في الوقت ذاته تشكيل لجنة تضم خبراء من الجانبين المصري والبريطاني تكون مهمتها اقتراح عدد من القواعد لغرض توزيع عادل لحصة مياه النيل بين مصر والسودان، وقد انتهت تلك اللجنة إلى توقيع اتفاقية في العام ،1929 كان أهم ما نصت عليه هو الإقرار بحق مصر التاريخي في مياه النيل، وضمان تدفقه لاحتياجات الزراعة .
وأقرت اتفاقية العام 1929 حق مصر في نصيب عادل من كل زيادة تطرأ على موارد النهر، في حالة القيام بمشروعات جديدة فوق النيل أو روافده مستقبلا، وقد حددت هذه الاتفاقية حصة مصر بمقدار 48 مليار متر مكعب سنويا، وحصة السودان بمقدار 4 مليارات متر مكعب .
وينظر كثير من الخبراء إلى الاتفاقية التي وقعت في العام 1929 بين مصر من جهة وبريطانيا من جهة أخرى ممثلة للسودان باعتبارها تسوية تاريخية حصلت بموجبها مصر على إقرار قانوني مكتوب بحقوقها التاريخية المكتسبة، وحصل بموجبها السودان كذلك على حصة أكبر من المياه، اعتبرت حينها كافية لتوسعاته الزراعية في إطار نظام الري الدائم .
مفاوضات شاقة
دخلت مصر في مفاوضات شاقة مع حكومة السودان استمرت عدة شهور قبل أن يتوصل الطرفان إلى توقيع اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام ،1959 وهي الاتفاقية المعروفة باسم “اتفاقية السد العالي” وقد نصت هذه الاتفاقية على : “تقسيم المياه عند السد العالي بين الدولتين على أساس متوسط إيراد النهر الطبيعي عند أسوان، والمقدر بحوالي 84 مليار متر مكعب سنويا، وتستبعد من هذه الكمية الحقوق المكتسبة للدولتين وقدرها 52 مليار متر مكعب سنويا، كما يستبعد فاقد التخزين بالبخر والتسرب في السد وقدره 10 مليارات متر مكعب سنويا، ويتم توزيع الصافي على أساس 5 .14 مليار متر مكعب للسودان و5 .7 مليار متر مكعب لمصر، ويُضم هذان النصيبان إلى حقهما المكتسب ، ليصبح نصيب السودان من صافي إيراد النهر بعد تشغيل السد العالي 5 .18 مليار متر مكعب سنويا، ولمصر 5 .55 مليار متر مكعب، فإذا زاد الإيراد فإن الزيادة في صافي الفائدة الناتجة عن زيادة الإيراد، تُقسّم مناصفة بين الدولتين، وتكون الكميات المذكورة محل مراجعة الطرفين بعد فترات كافية يتفقان عليها بعد تشغيل خزان السد العالي بالكامل .
وقعت مصر والسودان على تلك الاتفاقية ولم تتقدم وقتها أي من دول الحوض رسميا بأي اعتراض لفترة طويلة، وهو ما يعني في عرف القانون الدولي أن الاتفاق “أصبح حائزا لقرينة التسامح العام، التي تؤكد أن الحصول على حصة من مياه نهر مشترك بشكل ظاهر، ومستمر ومتسق بكميات متساوية تقريبا كل عام ، دون اعتراض من أي من دول الحوض، يؤكد ويرسخ الحق التاريخي الذي لا يمكن المساس به طبقا لأحكام محكمة العدل الدولية الصادرة في العام 1951 ولاتفاقية فيينا الموقعة في العام 1878 والمتعلقة “ بالتوارث الدولي للمعاهدات ” حيث تؤكد هذه الاتفاقية على استمرار الاتفاقيات الدولية وعدم جواز المساس بما ترتبه من حقوق والتزامات، بغض النظر عن تغير الأنظمة الحاكمة للدول الموقعة حرصا على استقرار النظام الدولي .
كان للدور الكبير الذي لعبته مصر خلال الحقبة الناصرية ودعمها لحركات التحرر الإفريقية أثر كبير في تهدئة الأوضاع في دول حوض النيل العشر، قبل أن تبدأ المشاكل في الانفجار مع بداية السبعينات، بعد أن نفضت مصر يدها عن الملف الإفريقي لتترك الساحة مفتوحة تماما أمام قوى أخرى في مقدمتها “إسرائيل”، التي سعت وبقوة لإشعال الموقف طمعا في الحصول على نصيب من مياه النهر تستفيد به في زراعة صحراء النقب، وقد اعتبر كثير من المراقبين الدور الذي تلعبه “إسرائيل” في عدد من بلدان دول الحوض خلال الفترة الأخيرة، مقدمة لتكريس مزاعمها بأنها الدولة الحادية عشرة في منظومة حوض النيل، لتشارك في وقت لاحق بالمفاوضات حول اقتسام المياه .